فصل: تفسير الآيات (37- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (37- 38):

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)}
{واصنع فلك} يعني السفينة والفلك لفظ يطلق على الواحد والجمع {بأعيننا} قال ابن عباس بمرأى منا وقيل بعلمنا وقيل بحفظنا {ووحينا} يعني بأمرنا {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} يعني بالطوفان والمعنى ولا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم وقيل ولا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم وقيل إن جبريل أتى نوحاً فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها ولست نجاراً فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم وجعل ينجر ولا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير وهو قوله سبحانه وتعالى: {ويصنع الفلك} يعني كما أمره الله سبحانه وتعالى قال أهل السير لما أمر الله سبحانه وتعالى نوحاً بعمل السفينة أقبل على عملها ولها عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عمل الفلك وجعل قومه يمرون وهو في عمله فيسخرون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد قال البغوي وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب وأن يجعله ثلاث طباق سفلى ووسطى وعلياً وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمره الله سبحانه وتعالى وقال ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره قال قتادة وكان بابها في عرضها، وروي عن الحسن: أنه كان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والقول الأول أشهر وهو أن طولها ثلثمائة ذراع وقال زيد بن أسلم: مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يصنع الفلك، وقال كعب الأحبار: عمل نوح عليه السلام السفينة في ثلاثين سنة وروي أنها ثلاثة أطباق الطبقة السفلى للدواب، والوحوش والطبقة الوسطى للإنس والطبقة العلياء للطير فلما كثرت رواث الدواب أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فوقع منه الفأر فأقبلوا على الروث فأكلوه فلما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهي القطة والقط فأقبلا على الفأر فأكلاه.
قوله سبحانه وتعالى: {وكلما مر عليه ملأ من قومه} أي جماعة من قومه {سخروا منه} يعني استهزؤوا به وذلك أنهم قالوا إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجاراً وقيل قالوا يا نوح ماذا تصنع قال أصنع بيتاً يمشي على الماء فضحكوا منه {قال} يعني نوحاً لقومه {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} يعني إن تستجهلونا في صنعنا فإنا نستجهلكم لتعرضكم لما يوجب سخط الله وعذابه، فإن قلت السخرية لا تليق بمنصب النبوة فكيف قال نوح عليه السلام إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون.
قلت إنما سمي هذا لفعل سخرية على سبيل الازدوج في مشاكلة الكلام كما في قوله سبحانه وتعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} والمعنى إنا نرى غب سخريتكم بنا إذا نزل بكم العذاب.

.تفسير الآيات (39- 40):

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}
قوله تعالى: {فسوف تعلمون} يعني فسترون {من يأتيه} يعني أينا يأتيه نحن أو أنتم {عذاب يخزيه} يعني يهينه {ويحل عليه عذاب مقيم} يعني في الآخرة فالمراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وهو الغرق والمراد بالعذاب الثاني عذاب الآخرة وعذاب النار الذي لا انقطاع له.
وقوله عز وجل: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} يعني وغلى والفور الغليان وفارت القدر إذا غلت.
والتنور: فارسي معرب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون وقيل إن لفظ التنور جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي وقيل إن لفظ التنور أصله أعجمي فتكلمت به العرب فصار عربياً مثل الديباج ونحوه واختلفوا في المراد بهذا التنور، فقال عكرمة والزهري: هو وجه الأرض وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة فعلى هذا يكون قد جعل فوران التنور علامة لنوح على هذا الأمر العظيم وقال علي: فار التنور أي طلع الفجر ونور الصبح شبه نور الصبح بخروج النار من التنور، وقال الحسن ومجاهد والشعبي: إن التنور هو الذي يخبز فيه، وهو قول أكثر المفسرين ورواية عن ابن عباس، أيضاً وهذا القول أصح لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه.
فإن قلت الألف واللام في لفظ التنور للعهد وليس هاهنا معهود سابق عند السامع فوجب حمله على غيره وهو شدة الأمر والمعنى إذا رأيت الماء يشتد نبوعه ويقوى فانج بنفسك ومن معك.
قلت: لا يبعد أن يكون ذلك التنور معلوماً عند نوح عليه السلام، قال الحسن كان تنوراً من حجارة وكانت حواء تخبز فيه ثم صار إلى نوح وقيل له إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا في موضع التنور فقال مجاهد نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وكان ذلك في ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، قال الشعبي: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان فوران التنور علامة لنوح عليه السلام، وقال مقاتل: كان ذلك التنور تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة وروي عن ابي عباس أنه كان بالهند قال: والفوران الغليان {قلنا احمل فيها} يعني: قلنا لنوح احمل في السفينة {من كل زوجين اثنين} الزوجان كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج والمعنى من كل صنف زوجين ذكراً أو أنثى فحشر الله سبحانه وتعالى إليه الحيوان من الدواب والسباع والطير فجعل نوح يضرب بيديه في كل جنس منها فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيجعلهما في السفينة {وأهلك} أي واحمل أهلك وولدك وعيالك {إلا من سبق عليه القول} يعني بإهلاك وأراد به امرأته واعلة وولده كنعان {ومن آمن} يعني واحمل معك من آمن بك من قومك {وما آمن معه إلا قليل} اختلفوا في عدد من حمل نوح معه في السفينة فقال قتادة وابن جريج ومحمد كعب القرظي لم يكن في السفينة إلا ثمانين: نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين له وهم سام وحام ويافث ونساؤهم؛ وقال الأعمش: كانوا سبعة نوحاً وبنيه وثلاث كنائن له.
وقال محمد بن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم وهم نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة نفر آمنوا بنوح وأزواجهم جميعاً، وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين نفراً رجلاً وامرأة وقال ابن عباس كان في السفينة ثمانون رجلاً أحدهم جرهم، قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: {وما آمن معه إلا قليل} فوصفهم الله سبحانه وتعالى بالقلة ولم يحدد عدداً بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مقاتل: حمل نوح معه جسد آدم عليه السلام فجعله معترضاً بين الرجال والنساء وقصد نوحاً جميع الدواب والطيور ليحملها قال ابن عباس: أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار فلما أراد أن يدخل الحمار أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه فلم تنتقل رجلاه وجعل نوح يقول له ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال له أدخل وإن كان الشيطان معك كلمة ذلت على لسانه فلما قالها نوح خلى سبيل الحمار فدخل الحمار ودخل الشيطان معه فقال له نوح ماذا أدخلك عليّ يا عدو الله قال ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك قال اخرج عني يا عدو الله.
قال: لابد من أن تحملني معك فكان فيما يزعمون على ظهر السفينة، هكذا نقله البغوي وقال الإمام فخر الدين الرازي: وأما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق وأيضاً فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح فالأولى ترك الخوض فيه، قال البغوي: وروي عن بعضهم أن الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا احملنا معك فقال إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين لم تضراه وقال الحسن لم يحمل نوح معه في السفينة إلا ما يلد ويبيض وأما ما سوى ذلك مما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئاً.

.تفسير الآيات (41- 43):

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
قوله سبحانه وتعالى: {وقال اركبوا فيها} يعني وقال نوح لمن حمل معه اركبوا في السفينة {بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} يعني بسم الله اجراؤها وإرساؤها قال الضحاك كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال بسم الله فتجري وكان إذا أراد أن ترسو يعني تقف قال بسم الله فترسو أي تقف وهذا تعليم من الله لعباده أنه من أراد أمراً فلا ينبغي له أن يشرع فيه حتى يذكر اسم الله عليه وقت الشروع حتى يكون ذلك سبباً للنجاح والفلاح في سائر الأمور {وهي تجري بهم في موج كالجبال} الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح، شبهه سبحانه وتعالى بالجبال في عظمه هو ارتفاعه على الماء قال العلماء: بالسير أرسل الله المطر أربعين يوماً وليلة وخرج الماء من الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر} يعني: صار إناء نصفين نصفاً من السماء ونصفاً من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء.
وروي أنه لما كثر الماء في الشكك خافت أم الصبي على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلحقها الماء فارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي {ونادى نوح ابنه} يعني كنعان وكان كافراً {وكان في معزل} يعني عن نوح لم يركب معه {يا بني اركب معنا} يعني في السفينة {ولا تكن مع الكافرين} يعني فتهلك معهم {قال} يعني قال كنعان {سآوي} يعني سألتجئ وأصير {إلى جبل يعصمني} يعني يمنعني {من الماء قال} يعني قال له نوح {لا عاصم} يعني لا مانع {اليوم من أمر الله} يعني من عذابه {إلا من رحم} يعني إلا من رحمه الله فينجيه من الغرق {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} يعني كنعان.

.تفسير الآيات (44- 46):

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}
{وقيل} يعني بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح {يا أرض ابلعي ماءك} أي اشربيه {ويا سماء أقلعي} أي أمسكي {وغيض الماء} أي نقص ونضب يقال غاض الماء إذا نقص وذهب {وقضي الأمر} يعني وفرغ من الأمر وهو هلاك قوم نوح {واستوت} يعني واستقرت السفينة {على الجودي} وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل {وقيل بعداً} يعني هلاكاً {للقوم الظالمين} قال العلماء: بالسير لما استقرت السفينة بعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع إليه فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء قد ذهب فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت وروي أن نوحاً عليه السلام ركب السفينة لعشر بقين من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت الحرام وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه فطافت السفينة به سبعاً وأودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح عليه السلام وأمر جميع من معه بصيامه شكراً لله تعالى وبنوا قرية بقرب الجبل فسميت سوق ثمانين فهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان، وقيل: إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان المال يصل إلى حجزته وسبب نجاته من الهلاك أن نوحاً عليه السلام احتاج إلى خشب ساج لأجل السفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج بن عنق من الشام إلى نوح فنجاه الله من الغرق لذلك.
فإن قلت: كيف اقتضت الحكمة الإلهية والكرم العظيم إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال ولم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم.
قلت: ذكر بعض المفسرين أن الله عز وجل أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فلم يولد لهم ولد تلك المدة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه يرد عليه إغراق جميع الدواب والهوام والطير وغير ذلك من الحيوان ويرد على ذلك أيضاً إهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح.
والجواب الشافي عن هذا كله أن الله سبحانه وتعالى متصرف في خلقه وهو المالك المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
قوله عز وجل: {ونادى نوح ربه} أي دعاه وسأله {فقال رب إن ابني من أهلي} يعني وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي {وإن وعدك الحق} يعني الصدق الذي لا خلف فيه {وأنت أحكم الحاكمين} يعني أنك حكمت لقوم بالنجاة وحكمت على قوم بالهلاك {قال} يعني قال الله تعالى: {يا نوح إنه} يعني هذا الابن الذي سألتني نجاته {ليس من أهلك} اختلف علماء التفسير: هل كان هذا الولد ابن نوح لصلبه أم لا فقال الحسن ومجاهد كان ولد حدث من غير نوح ولم يعلم به فلذلك قال إنه ليس من أهلك، وقال محمد بن جعفر الباقر: كان ابن امرأة نوح وكان يعلمه نوح ولذلك قال من أهلي ولم يقل مني.
وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين: إنه ابن نوح من صلبه، وهذا القول هو الصحيح والقولان الأولان ضعيفان بل باطلان ويدل على صحة هذا نقل الجمهور لما صح عن ابن عباس أنه قال: ما بغت امرأة نبي قط ولأن الله سبحانه وتعالى نص عليه بقوله سبحانه وتعالى: {ونادى نوح ابنه} ونوح صلى الله عليه وسلم أيضاً نص عليه بقوله: {يا بني اركب معنا} وهذا نص في الدلالة وصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة لا يجوز وإنما خالف هذا الظاهر من خالفه لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافراً وهذا خطأ ممن قاله لأن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه فريق في الجنة وهم المؤمنون وفريق في السعير وهم الكفار والله سبحانه وتعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم فإن الله سبحانه وتعالى أخرج قابيل من صلب آدم عليه السلام وهو نبي وكان قابيل كافراً وأخرج إبراهيم من صلب آزر وهو نبي وكان آزر كافراً فكذلك أخرج كنعان وهو كافر من صلب نوح وهو نبي فهو المتصرف في خلقه كيف يشاء.
فإن قلت: فعلى هذا كيف ناداه نوح فقال: اركب معنا وأسأل له النجاة مع قوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً قلت: قد ذكر بعضهم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم بكون ابنه كان كافراً فلذلك ناداه وعلى تقدير أنه يعلم كفره إنما حمله على أن ناداه رقة لأبوة ولعله إذا رأى تلك الأهوال أن يسلم فينجيه الله بذلك من الغرق فأجابه الله عز وجل بقوله إنه ليس من أهلك يعني أنه ليس من أهل دينك لأن أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما.
ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر قال الله سبحانه وتعالى لنوح: إنه ليس من أهلك {إنه عمل غير صالح} قرأ الكسائي ويعقوب: عَمِلَ بكسر الميم وفتح اللام غير بفتح الراء على عود الفعل على الابن ومعناه أنه عمل الشرك والكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح، وقرأ الباقون من القراء: عمَلٌ بفتح الميم ورفع اللام مع التنوين وغير بضم الراء ومعناه إن سؤالك إياي أن أنجيه من الغرق عمل غير صالح لأن طلب نجاة الكفار بعد ما حكم عليه بالهلاك بعيد فلهذا قال سحبانه وتعالى: {إنه عمل غير صالح} ويجوز أن يعود الضمير في إنه على ابن نوح أيضاً ويكون التقدير على هذه القراءة إن ابنك ذو عمل أو صاحب عمل غير صالح فحذف المضاف كما قالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار.
قال الواحدي، وهذا قول أبي إسحاق يعني الزجاج وأبي بكر بن الأنباري وأبي علي الفارسي قال أبو علي: ويجوز أن يكون ابن نوح عمل عملاً غير صالح فجعلت نفسه ذلك العمل لكثرة ذلك منه، كما يقال الشعر زهير والعلم فلان إذا كثر منه فعلى هذا لا حذف {فلا تسألن ما ليس لك به علم} وذلك أن نوحاً عليه السلام سأل ربه إنجاء ولده م نالغرق وهو من كمال شفقة الوالد على ولده وهو لا يعلم أن ذلك محظور لإصرار ولده على الكفر فهناه الله سبحانه وتعالى عن مثل هذه المسألة وأعلمه أن ذلك لا يجوز فكان المعنى فلا تسألن ما ليس لك به علم بجواز مسألته {إني أعظك} يعني أنهاك {أن تكون من الجاهلين} يعني لمثل هذا السؤال.